فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

(104) سورة الهمزة:
نزولها: نزلت بمكة.. بعد سورة القيامة.
عدد آياتها: تسع آيات.
عدد كلماتها: ثلاث وثلاثون كلمة.
عدد حروفها: مائة وثلاثون حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
في سورة العصر أقسم الحقّ جلّ وعلا {بالعصر} على أن الإنسان في خسر، مستثنيا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر.
وفى هذه السورة (سورة الهمزة) عرض للإنسان الخاسر، ومن أبن كان خسرانه، وإلى أين يكون مصيره.
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات: (1- 9) [سورة الهمزة (104): الآيات 1- 9]
{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مؤصدة (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)}
قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}.
{الهمزة} هو الذي يهمز الناس، أي يؤذبهم بقوارص الكلم جهرة، فيخدش حياءهم، ويمتهن كرامتهم، ليزداد هو علوّا وتطاولا على الناس، ولتخفّ موازينهم إزاء ميزانه، فلا يرتفع أمامه رأس، ولا يشمخ أنف.
و(اللمزة) هو الذي ينقص من أقدار ذوى الأقدار، في غير مواجهتهم، إذ كان لا يستطيع أن يلقاهم وجها لوجه. فيشيع الفاحشة فيهم، ويذيع قالة السوء عنهم.
فالهمز واللّمز غايتهما واحدة، وهى الحطّ من أقدار الناس، ومحاولة إنزالهم منازل الدّون في الحياة.. وإن كان الهمز بأسلوب العلانية، واللمز بأسلوب السرّ والخفاء.. ومن كان من شأنه الهمز كان من شأنه اللمز كذلك، والعكس صحيح.. إذ هما ينبعان من طبيعة واحدة.
وقوله تعالى: {الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ} هو من أوصاف هذا الهمزة اللّمزة، الذي توعّده اللّه سبحانه وتعالى بالويل والعذاب..
فأكثر الناس همزا ولمزا للناس، هو الذي يحرص على جمع المال، ويجعل هذا الجمع كلّ همّه في الدنيا..
وإنه لكى ينفسح له طريق الجمع، ويخلو له ميدان الكسب، يحارب الناس بكل سلاح، فلا يدع في الميدان الذي يعمل فيه إنسانا إلا طعنه الطعنات القاتلة متى أمكنته الفرصة فيه.. بالهمز حينا، وباللمز أحيانا.
ثم إنه من جهة أخرى- إذ يجمع ما يجمع من مال- حريص على أن يدفع عن هذا المال كل عادية يراها بأوهامه وظنونه، فهو لشدة حرصه على ما جمع، يحسب أن كل الناس لصوص يريدون أن يسرقوه، أو قطاع طرق يتربصون به.. وهو لهذا يرمى الناس بكل سلاح، ويطعنهم بكل ما يقع ليده.. وكأنهم متلبسون بسرقة ماله الذي جمع!! ثم هو من جهة ثالثة، حريص على أن يقيم له من هذا المال الذي جمعه، سلطانا على الناس، لا بما ينفق عليهم منه في وجوه الخير، ولا بما يمدّ به يده إليهم من معروف، بل بما يرى الناس من غناه وكثرة أمواله.. وهو لهذا يعمل على إعلاء نفسه بهدم غيره، والحطّ من منزلته.. وهذا هو الإنسان في أسوأ أحواله، وأخسّ منازله.. إنه لا يسمو بذاتيته، ولا يرتفع بسعيه في وجوه الخير والفلاح، بل إنه يرتفع على حطام الناس، ويعلو على جثث ضحاياه، الذين يريق دمهم بهمزه ولمزه.
وهذا هو السرّ- واللّه أعلم- في الجمع هنا بين الهمزة، اللّمزة، وجامع المال ومكتنزه.
فالهمز واللمز، وإن كان طبيعة غالبة في الناس من أغنياء وفُقراء، إلّا أنه عند الذين همّهم كلّه هو المال، يعدّ سلاحا من الأسلحة العاملة لهم في جمع المال، وفى حراسته، وفى التمكين لهم من التسلط على الناس به.
وعدّد المال: جمع بعضه إلى بعض في صفوف مترصّة، وفى صنوف متعددة، كل صنف منها يأخذ مكانا خاصّا به، فهذا ذهب، وذاك فضة، وذا جواهر ولآلئ، وتلك أنعام وزروع، ورياض، وهذه دور وقصور، وأثاث ورياش، إلى غير ذلك مما يعدّ من عالم المال، ويحسب بحسابه.
وقوله تعالى: {يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ} جملة حالية تكشف عن ظنون هذا الإنسان وأوهامه، وهو أنه على ظنّ من أن هذا المال الذي جمعه، سيخلّده، ويمدّ له في الحياة، وأنه بقدر ما يستكثر من المال بقدر ما يكون له من بقاء في هذه الدنيا.. هكذا شأن الحريصين على المال، الذين اتجه همهم كلّه إلى جمعه.. إنهم لا يذكرون الموت أبدا، ولا يغشون مكانا يذكّرهم به، ولا يستمعون إلى حديث يذكر فيه.. إن الموت عندهم هو عدوّ قد قتلوه بأمانيّهم الباطلة، وأراحوا أنفسهم منه، فما لهم والحديث عنه؟ وما لهم وما يذكّرهم به؟
وقوله تعالى: {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ}.
أي كلّا، إنه في وهم خادع، وفى ضلال مبين، إذ يحسب أن المال يخلّد صاحبه ويمدّ له في العمر.. وكلا إنه سيموت، وسيبعث، وسينبذ أي يرمى في الحطمة، أي جهنّم، التي تحطمه حطما، وتدقّه دقّا، وتهشمه هشما..
ونبذ الشيء: طرحه في غير مبالاة، هوانا له واستخفافا به.. كما تنبذ النواة من النمرة بعد أن تؤكل.
وقوله تعالى: {وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ}.
استفهام عن الحطمة، يلفت النظر إليها، ويدير العقل للبحث عن حقيقتها..
وجواب يجيب عن هذا السؤال، ليكشف عن حقيقة هذه الحطمة، ليلتقى مع ما وقع في النفس من تصورات لها، فتزداد حقيقتها وضوحا وبيانا.
إنها نار اللّه الموقدة.. قد أوقدها اللّه فكانت نار للّه، وليست من تلك النار التي يوقدها الناس!.
وقوله تعالى: {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ}.
أي أنهانار ذات شأن عجيب، ليس في نار الدنيا شيء من صفاتها وآثارها.. إنها تطلع على الأفئدة، أي أنها لا تتسلط على الأجسام وحسب، بل إنها تتسلط كذلك على المشاعر والوجدانات، فتشتعل بها المشاعر، ونحترق بها الوجدانات.. وقد يكون في هذا ما يشير- واللّه أعلم- إلى أن عذاب أهل النار نفسىّ، أكثر منه مادىّ.
وقد قيل إن معنى الاطلاع على الأفئدة، هو أن هذه النار العجيبة تعرف أهلها، وكأنّها اطلعت على سرائرهم، وما عملوا من منكرات، فتدعوهم إليها، وتمسك بهم، وتشتمل عليهم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وتولى وَجَمَعَ فَأَوْعى} (17- 18 المعارج) وقوله سبحانه: {إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} (12: الفرقان).
قوله تعالى: {إِنَّها عَلَيْهِمْ مؤصدة فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}.
أي أن هذه النار مؤصدة، أي مغلقة على أهلها، مطبقة عليهم، لا يجدون لهم فيها منفذا إلى العالم الخارجي.. أما هم، فهم مشدودون إلى عمد ممددة، قد شدت أغلالهم إليها.. فهم بهذه القيود في سجن، داخل هذا السجن!
وقد قلنا في غير موضع إن هذه الأوصاف التي توصف بها أدوات العذاب، في النار، وتلك الأوصاف التي توصف بها ألوان النعيم في الجنة، هي مما فتمثله في الدنيا، ونرى مشابه منه كما نطق به القرآن الكريم، أما كنه هذه الأشياء وحقيقتها، فلا يعلمها إلا اللّه، سبحانه، وعلينا أن نصدق بها كما وردت، دون أن نبحث عن صفاتها، وحدودها. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)}
كلمة (ويل له) دُعاء على المجرور اسمُه باللام بأن يناله الويل وهو سوء الحال كما تقدم غير مرة منها قوله تعالى: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند اللَّه} في سورة البقرة (79).
والدعاء هنا مستعمل في الوعيد بالعقاب.
وكلمة (كُلّ) تشعر بأن المهددين بهذا الوعيد جماعة وهم الذين اتخذوا همز المسلمين ولمزهم ديدنًا لهم أولئك الذين تقدم ذكرهم في سبب نزول السورة.
وهُمَزَة ولُمزة: بوزن فُعَلَة صيغة تدل على كثرة صدور الفعل المصاغ منه.
وأنه صار عادة لصاحبه كقولهم: ضُحَكَة لكثير الضحك، ولُعَنَة لكثير اللعن، وأصلها: أن صيغة فُعَل بضم ففتح ترد للمبالغة في فَاعل كما صرح به الرضيّ في شرح الكافية يقال: رجل حُطَم اذا كان قليل الرحمة للماشية، أي والدواب.
ومنه قولهم: خُتع (بخاء معجمة ومثناة فوقية) وهو الدليل الماهر بالدلالة على الطريق فإذا أريدت زيادة المبالغة في الوصف أُلحق به الهاء كما أُلحقت في: علاّمة ورحَّالة، فيقولون: رجل حُطمة وضُحكة ومنه هُمزة، وبتلك المبالغة الثانية يفيد أن ذلك تفاقم منه حتى صار له عادة قد ضري بها كما في (الكشاف)، وقد قالوا: إن عُيَبَة مساوٍ لعيابة، فمن الأمثلة ما سمع فيه الوصف بصيغتي فُعَل وفُعَلَة نحو حُطم وحطمة بدون هاء وبهاء، ومن الأمثلة ما سمع فيه فُعلة دون فُعل نحو رجل ضُحَكة، ومن الأمثلة ما سمع فيه فُعَل دون فُعَلَة وذلك في الشتم مع حرف النداء يا غُدَر ويا فُسق ويا خُبَث ويا لُكع.
قال المرادي في (شرح التسهيل) قال: بعضهم ولم يسمع غيرها ولا يقاس عليها، وعن سيبويه أنه أجاز القياس عليها في النداء أهـ.
قلت: وعلى قول سيبويه بنى الحريري قوله في (المقامة السابعة والثلاثين): صَهْ يا عُقَق، يا من هو الشّجَا والشَرَق.
وهُمزة: وصف مشتق من الهَمز. وهو أن يعيب أحد أحدا بالإِشارة بالعين أو بالشِّدق أو بالرأس بحضرته أو عند توليه، ويقال: هَامز وهمَّاز، وصيغة فُعلة يدل على تمكن الوصف من الموصوف.
ووقع {همزة} وصفًا لمحذوف تقديره: ويل لكل شَخْص هُمزة، فلما حذف موصُوفه صار الوصف قائمًا مقامه فأضيف إليه (كُلّ).
ولمزة: وصف مشتق من اللمز وهو المواجعة بالعيب، وصيغته دالة على أن ذلك الوصف ملكة لصاحبه كما في هُمزة.
وهذان الوصفان من معاملة أهل الشرك للمؤمنين يومئذ، ومَن عامَلَ من المسلمين أحدا من أهل دينه بمثل ذلك كان له نصيب من هذا الوعيد.
فمن اتصف بشيء من هذا الخلق الذميم من المسلمين مع أهل دينه فإنها خصلة من خصال أهل الشرك.
وهي ذميمة تدخل في أذى المسلم وله مراتب كثيرة بحسب قوة الأذى وتكرره ولم يُعد من الكبائر إلا ضربُ المسلم.
وسبُّ الصحابة رضي الله عنهم وإدمان هذا الأذى بأن يتخذه ديدنًا فهو راجع إلى إدمان الصغائر وهو معدود من الكبائر.
وأتبع {الذي جمع مالًا وعدده} لزيادة تشنيع صفتيه الذميمتين بصفة الحرص على المال.
وإنما ينشأ ذلك عن بخل النفس والتخوف من الفقر، والمقصود من ذلك دخول أولئك الذين عُرفوا بهمز المسلمين ولمزهم الذين قيل إنهم سبب نزول السورة لتعيينهم في هذا الوعيد.
واسم الموصول من قوله: {الذي جمع مالًا} نعت آخر ولم يعطف {الذي} بالواو لأن ذكر الأوصاف المتعددة للموصوف الواحد يجوز أن يكون بدون عطف نحو قوله تعالى: {ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم} [القلم: 10 13].
والمال: مكاسب الإنسان التي تنفعه وتكفي مؤونة حاجته من طعام ولباس وما يتخذ منه ذلك كالأنعام والأشجار ذات الثمار المثمرة.
وقد غلب لفظ المال في كل قوم من العرب على ما هو الكثير من مشمولاتهم فغلب اسم المال بين أهل الخيام على الإِبل قال زهير:
فكُلاّ أراهم أصبحوا يعقلونه ** صحيحاتت مال طالعات بمخرم

يريد إبل الدية ولذلك قال: طالعات بمخرم.
وهو عند أهل القرى الذين يتخذون الحوائط يغلب على النخل يقولون خرج فلان إلى مَاله، أي إلى جناته، وفي كلام أبي هريرة: «وإن أخواني الأنصار شغلهم العمل في أموالهم» وقال أبو طلحة: «وإن أحب أموالي إلى بئرُ حاء».
وغلب عند أهل مكة على الدراهم لأن أهل مكة أهل تجر ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: «أينَ المال الذي عند أم الفضل».
وتقدم في قوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} سورة آل عمران (92).
ومعنى: {عدده} أكْثر من عدِّه، أي حسابه لشدة ولعه بجمعه فالتضعيف للمبالغة في (عدَّ) ومعاودته.
وقرأ الجمهور {جمع مالًا} بتخفيف الميم، وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو جعفر ورويس عن يعقوب وخلفٌ بتشديد الميم مزاوجًا لقوله: {عدده} وهو مبالغة في {جمع}.
وعلى قراءة الجمهور دل تضعيف {عدده} على معنى تكلف جمعه بطريق الكناية لأنه لا يكرر عده إلا ليزيد جمعه.
ويجوز أن يكون {عدده} بمعنى أكثر إعداده، أي إعداد أنواعه فيكون كقوله تعالى: {والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث} [آل عمران: 14].
وجملة: {يحسب أن ماله أخلده} يجوز أن تكون حالًا من هُمَزة فيكون مستعملًا في التَّهكم عليه في حرصه على جمع المال وتعديده لأنه لا يُوجد من يَحْسب أن ماله يُخلده، فيكون الكلام من قبيل التمثيل، أو تكون الحال مرادًا بها التشبيه وهو تشبيه بليغ.
ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة والخبر مستعملًا في الإِنكار، أو على تقدير همزة استفهام محذوفة مستعملًا في التهكم أو التعجيب.
وجيء بصيغة المضي في {أخلده} لتنزيل المستقبل منزلة الماضي لتحققه عنده، وذلك زيادة في التهكم به بأنه موقن بأن ماله يخلده حتى كأنه حصل إخلاده وثبت.
والهَمزة في {أخلده} للتعدية، أي جعله خالدًا.
وقرأ الجمهور: {يحسِب} بكسر السين.
وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر بفتح السين وهما لغتان.
ومعنى الآية: أن الذين جمعوا المال يشبه حالهم حال من يحسب أن المال يقيهم الموت ويجعلهم خالدين لأن الخلود في الدنيا أقصى متمناهم إذ لا يؤمنون بحياة أخرى خالدة.
و{كلاّ} إبطال لأن يكون المال مُخلدًّا لهم.
وزجر عن التلبس بالحالة الشنيعة التي جعلتهم في حال من يحسب أن المال يخلد صاحبه، أو إبطال للحرص في جمع المال جمعًا يمنع به حقوق الله في المال من نفقات وزكاة.
{كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِى} {الحطمة وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الحطمة نَارُ الله الموقدة التي تَطَّلِعُ عَلَى الافئدة}.
استئناف بياني ناشئ عن ما تضمنته جملة: {يحسب أن ماله أخلده} من التهكم والإِنكار، وما أفاده حرف الزجر من معنى التوعد.
والمعنى: ليَهْلِكَنَّ فَليُنْبَذَنَّ في الحُطمة.
واللام جواب قسم محذوف.
والضمير عائد إلى الهمزة.
والنبذ: الإِلقاء والطرح، وأكثر استعماله في إلقاء ما يكره.
قال صاحب (الكشاف) في قوله تعالى: {فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم} [القصص: 40] شبههم استحقارًا لهم بحَصَيات أخذَهُن آخذٌ بكفه فطرحهن أهـ.
والحُطمة: صفة بوزن فُعَلَة، مثل ما تقدم في الهُمزة، أي لينبذن في شيء يحطمه، أي يكسره ويدقه.
والظاهر أن اللام لتعريف العهد لأنه اعتبر الوصف علمًا بالغلبة على شيء يحطم وأريد بذلك جهنم، وأن إطلاق هذا الوصف على جهنم من مصطلحات القرآن.
وليس في كلام العرب إطلاق هذا الوصف على النار.
فجملة: {وما أدراك ما الحطمة} في موضع الحال من قوله: {الحطمة} والرابط إعادة لفظ الحطمة، وذلك إظهار في مقام الإِضمار للتهويل كقوله: {الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة} [الحاقة: 1 3] وما فيها من الاستفهام، وفعل الدراية يفيد تهويل الحطمة، وقد تقدم {ما أدراك} غير مرة منها عند قوله: {وما أدراك ما يوم الدين} في سورة الانفطار (17).
وجملة: {نار الله الموقدة} جواب عن جملة {وما أدراك ما الحطمة} مفيد مجموعهما بيان الحطمة ما هي، وموقع الجملة موقع الاستئناف البياني، والتقدير هي، أي الحطمة نار الله، فحُذف المبتدأ من الجملة جريا على طريقة استعمال أمثاله من كل إخبار عن شيء بعد تقدم حديث عنه وأوصاف له، وقد تقدم عند قوله تعالى: {صم بكم عمي} في سورة البقرة (18).
وإضافة {نار} إلى اسم الجلالة للترويع بها بأنها نار خلقها القادر على خلق الأمور العظيمة.
ووصف {نار} بـ: {موقدة}، وهو اسم مفعول من: أوقد النار، إذا أشعلها وألهبَها.
والتوقد: ابتداء التهاب النار فإذا صارت جمرًا فقد خفّ لهبها، أو زال، فوصف {نار} بـ: {موقدة} يفيد أنها لا تزال تلتهب ولا يزول لهيبها.
وهذا كما وُصفت نار الأخدود بذات الوَقود (بفتح الواو) في سورة البروج، أي النار التي يُجدد اتقادها بوقود وَهو الحَطب الذي يُلقَى في النار لتتقد فليس الوصف بالموقَدة هنا تأكيدًا.
ووصفت {نار اللَّه} وصفًا ثانيًا بـ: {التي تطلع على الأفئدة}.
والاطلاع يجوز أن يكون بمعنى الإِتيان مبالغة في طلع، أي الإِتيان السريع بقوة واستيلاء، فالمعنى: التي تنفذ إلى الأفئدة فتحرقها في وقت حرق ظاهر الجسد.
وأن يكون بمعنى الكشف والمشاهدة قال تعالى: {فاطلع فرآه في سواء الجحيم} [الصافات: 55] فيفيد أن النار تحرق الأفئدة إحراق العالِم بما تحتوي عليه الأفئدة من الكفر فتصيب كل فؤاد بما هو كِفاؤه من شدة الحرق على حسب مبلغ سوء اعتقاده، وذلك بتقدير من الله بين شدة النار وقابلية المتأثر بها لا يعلمه إلا مُقدِّره.
إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مؤصدة (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
هذه جملة يجوز أن تكون صفة ثالثة لـ: {نار اللَّه} [الهمزة: 6] بدون عاطف، ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافًا ابتدائيًا وتأكيدها بـ: (إنّ) لتهويل الوعيد بما ينفي عنه احتمالَ المجاز أو المبالغة.
وموصدة: اسم مفعول من أوصد الباب، إذا أغلقه غلقًا مطبقًا.
ويقال: آاصد بهمزتين أحداهما أصلية والأخرى همزة التعدية، ويقال: أصَدَ الباب فعلًا ثلاثيًا، ولا يقال: وصَد بالواو بمعنى أغلق.
وقرأ الجمهور: {موصدة} بواو بعد الميم على تخفيف الهمزة، وقرأه أبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم ويعقوب وخلف بهمزة ساكنة بعد الميم المضمومة.
ومعنى إيصادها عليهم: ملازمة العذاب واليأسُ من الإِفلات منه كحال المساجين الذين أغلق عليهم باب السجن تمثيلَ تقريب لشدة العذاب بما هو متعارف في أحوال الناس، وحالُ عذاب جهنم أشد مما يبلغه تصور العقول المعتاد.
وقوله: {في عمد ممددة} حال: إما من ضمير {عليهم} أي في حال كونهم في عَمَد، أي موثوقين في عمد كما يوثق المسجون المغلظ عليه من رجليه في فَلْقَة ذاتت ثَقب يدخل في رجله أو في عنقه كالقرأم.
وإمّا حال من ضمير {إنها}، أي أن النار الموقدة في عمد، أي متوسطة عَمدًا كما تكون نار الشواء إذ توضع عَمَد وتجعل النار تحتها تمثيلًا لأهلها بالشواء.
و{عمد} قرأه الجمهور بفتحتين على أنه اسم جمع عمود مثل: أديم وأدم.
وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف {عُمَد} بضمتين وهو جمع عمود، والعمود: خشبة غليظة مستطيلة.
والممدَّدة: المجعولة طويلة جدًّا، وهو اسم مفعول من مدده، إذا بالغ في مده، أي الزيادة فيه.
وكل هذه الأوصاف تقوية لتمثيل شدة الإِغلاظ عليهم بأقصى ما يبلغه متعارف الناس من الأحوال. اهـ.